فصل: تفسير الآيات (3- 4):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (3- 4):

{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)}.
لما ذكر تعالى العالم العلوي، شرع في ذكر قدرته وحكمته وأحكامه للعالم السفلي، فقال: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ} أي: جعلها متسعة ممتدة في الطول والعرض، وأرساها بجبال راسيات شامخات، وأجرى فيها الأنهار والجداول والعيون لسقي ما جعل فيها من الثمرات المختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح، من كل زوجين اثنين، أي: من كل شكل صنفان.
{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} أي: جعل كلا منهما يطلب الآخر طلبا حثيثا، فإذا ذهب هذا غَشيه هذا، وإذا انقضى هذا جاء الآخر، فيتصرف أيضا في الزمان كما تصرف في المكان والسكان.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي: في آلاء الله وحكمته ودلائله.
وقوله: {وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} أي: أراضٍ تجاور بعضها بعضا، مع أن هذه طيبة تنبت ما ينتفع به الناس، وهذه سَبَخة مالحة لا تنبت شيئا. هكذا روي عن ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جُبَيْر، والضحاك، وغيرهم.
وكذا يدخل في هذه الآية اختلاف ألوان بقاع الأرض، فهذه تربة حمراء، وهذه بيضاء، وهذه صفراء، وهذه سوداء، وهذه محجرة وهذه سهلة، وهذه مرملة، وهذه سميكة، وهذه رقيقة، والكل متجاورات. فهذه بصفتها، وهذه بصفتها الأخرى، فهذا كله مما يدل على الفاعل المختار، لا إله إلا هو، ولا رب سواه.
وقوله: {وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ} يحتمل أن تكون عاطفة على {جنات} فيكون {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ} مرفوعين. ويحتمل أن يكون معطوفا على أعناب، فيكون مجرورا؛ ولهذا قرأ بكل منهما طائفة من الأئمة.
وقوله: {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} الصنوان: هي الأصول المجتمعة في منبت واحد، كالرمان والتين وبعض النخيل، ونحو ذلك. وغير الصنوان: ما كان على أصل واحد، كسائر الأشجار، ومنه سمي عم الرجل صنو أبيه، كما جاء في الحديث الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر: «أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه؟».
وقال سفيان الثوري، وشعبة، عن أبى إسحاق، عن البراء، رضي الله عنه: الصنوان: هي النخلات في أصل واحد، وغير الصنوان: المتفرقات. وقاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقوله: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ} قال الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ} قال: الدَّقَل والفارسي، والحُلْو والحامض. رواه الترمذي وقال: حسن غريب.
أي: هذا الاختلاف في أجناس الثمرات والزروع، في أشكالها وألوانها، وطعومها وروائحها، وأوراقها وأزهارها.
فهذا في غاية الحلاوة وذا في غاية الحموضة، وذا في غاية المرارة وذا عَفِص، وهذا عذب وهذا جمع هذا وهذا، ثم يستحيل إلى طعم آخر بإذن الله تعالى. وهذا أصفر وهذا أحمر، وهذا أبيض وهذا أسود وهذا أزرق. وكذلك الزهورات مع أن كلها يستمد من طبيعة واحدة، وهو الماء، مع هذا الاختلاف الكبير الذي لا ينحصر ولا ينضبط، ففي ذلك آيات لمن كان واعيا، وهذا من أعظم الدلالات على الفاعل المختار، الذي بقدرته فاوت بين الأشياء وخلقها على ما يريد؛ ولهذا قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}

.تفسير الآية رقم (5):

{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)}
يقول تعالى لرسوله محمد، صلوات الله وسلامه عليه: {وَإِنْ تَعْجَبْ} من تكذيب هؤلاء المشركين بأمر المعاد مع ما يشاهدونه من آيات الله سبحانه ودلالاته في خلقه على أنه القادر على ما يشاء، ومع ما يعترفون به من أنه ابتدأ خلق الأشياء، فكونها بعد أن لم تكن شيئا مذكورا، ثم هم بعد هذا يكذبون خبره في أنه سيعيد العالمين خلقا جديدا، وقد اعترفوا وشاهدوا ما هو أعجب مما كذبوا به، فالعجب من قولهم: {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} وقد علم كل عالم وعاقل أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس، وأن من بدأ الخلق فالإعادة سهلة عليه، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
ثم نعت المكذبين بهذا فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} أي: يسحبون بها في النار، {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي: ماكثون فيها أبدا، لا يحولون عنها ولا يزولون.

.تفسير الآية رقم (6):

{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)}
يقول تعالى: {ويستعجلونك} أي: هؤلاء المكذبون {بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} أي: بالعقوبة، كما أخبر عنهم في قوله: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * مَا نُنزلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ} [الحجر: 6- 8] وقال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 53، 54] وقال: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج: 1] وقال: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} [الشورى: 18] {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص: 16] أي: حسابنا وعقابنا، كما قال مخبرا عنهم: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] فكانوا يطلبون من الرسول أن يأتيهم بعذاب الله، وذلك من شدة تكذيبهم وكفرهم وعنادهم.
قال الله تعالى: {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ} أي: قد أوقعنا نقمتنا بالأمم الخالية وجعلناهم مثلة وعبرة وعظة لمن اتعظ بهم.
ثم أخبر تعالى أنه لولا حلمه وعفوه وغفره لعالجهم بالعقوبة، كما قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45].
وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} أي: إنه ذو عفو وصفح وستر للناس مع أنهم يظلمون ويخطئون بالليل والنهار. ثم قرن هذا الحكم بأنه شديد العقاب، ليعتدل الرجاء والخوف، كما قال تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 147] وقال: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف: 167] وقال: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ} [الحجر: 49، 50] إلى أمثال ذلك من الآيات التي تجمع الرجاء والخوف.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسَيَّب قال: لما نزلت هذه الآية: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا عفوُ الله وتجاوُزه، ما هنأ أحدا العيش ولولا وعيده وعقابه، لاتكل كل أحد».
وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة الحسن بن عثمان أبي حسان الزيادي: أنه رأى رب العزة في النوم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بين يديه يشفع في رجل من أمته، فقال له: ألم يكفك أني أنزلت عليك في سورة الرعد: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ}؟ قال: ثم انتبهت.

.تفسير الآية رقم (7):

{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)}
يقول تعالى إخبارًا عن المشركين أنهم يقولون كفرا وعنادا: لولا يأتينا بآية من ربه كما أرسل الأولون، كما تعتنوا عليه أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن يزيل عنهم الجبال، ويجعل مكانها مروجا وأنهارا، قال الله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59].
قال الله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} أي: إنما عليك أن تبلغ رسالة الله التي أمرك بها، {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272].
وقوله: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، أي: ولكل قوم داع.
وقال العوفي، عن ابن عباس في تفسيرهما: يقول الله تعالى: أنت يا محمد منذر، وأنا هادي كل قوم، وكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك.
وعن مجاهد: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} أي: نبي. كما قال: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] وبه قال قتادة، وعبد الرحمن بن زيد.
وقال أبو صالح، ويحيى بن رافع: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} أي: قائد.
وقال أبو العالية: الهادي: القائد، والقائد: الإمام، والإمام: العمل.
وعن عِكْرِمة، وأبي الضحى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} قالا هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال مالك: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} من يدعوهم إلى الله، عز وجل.
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثني أحمد بن يحيى الصوفي، حدثنا الحسن بن الحسين الأنصاري، حدثنا معاذ بن مسلم بياع الهروي، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: لما نزلت: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} قال: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره، وقال: «أنا المنذر، ولكل قوم هاد». وأومأ بيده إلى منكب علي، فقال: «أنت الهادي يا علي، بك يهتدي المهتدون من بعدي».
وهذا الحديث فيه نكارة شديدة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا المطلب بن زياد، عن السدي، عن عبد خير، عن علي: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} قال: الهادي: رجل من بني هاشم: قال الجنيد هو علي بن أبي طالب، رضي الله عنه.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عباس، في إحدى الروايات، وعن أبي جعفر محمد بن علي، نحو ذلك.

.تفسير الآيات (8- 9):

{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)}
يخبر تعالى عن تمام علمه الذي لا يخفى عليه شيء، وأنه محيط بما تحمله الحوامل من كل إناث الحيوانات، كما قال تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ} [لقمان: 34] أي: ما حملت من ذكر أو أنثى، أو حسن أو قبيح، أو شقي أو سعيد، أو طويل العمر أو قصيره، كما قال تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32].
وقال تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} [الزمر: 6] أي: خلقكم طورا من بعد طور، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12: 14] وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه ملك فيؤمر بأربع كلمات: يَكْتب رزقه، وعمره، وعمله، وشقي أو سعيد».
وفي الحديث الآخر: «فيقول الملك: أيْ رب، أذكر أم أنثى؟ أي رب، أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيقول الله، ويكتب الملك».
وقوله: {وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} قال البخاري: حدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا مَعْن، حدثنا مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله».
وقال العوفي، عن ابن عباس: {وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ} يعني: السَقْط {وَمَا تَزْدَادُ} يقول: ما زادت الرحم في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تماما. وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر، ومنهن من تحمل تسعة أشهر، ومنهن من تزيد في الحمل، ومنهن من تنقص، فذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله تعالى، وكل ذلك بعلمه تعالى.
وقال الضحاك، عن ابن عباس في قوله: {وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} قال: ما نقصت من تسعة وما زاد عليها.
وقال الضحاك: وضعتني أمي وقد حملتني في بطنها سنتين، وولدتني وقد نبتت ثنيَّتي.
وقال ابن جُرَيْج، عن جميلة بنت سعد، عن عائشة قالت: لا يكون الحمل أكثر من سنتين، قدر ما يتحرك ظِل مغْزَل.
وقال مجاهد: {وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} قال: ما ترى من الدم في حملها، وما تزداد على تسعة أشهر. وبه قال عطية العوفي وقتادة، والحسن البصري، والضحاك.
وقال مجاهد أيضا: إذا رأت المرأة الدم دون التسعة زاد على التسعة، مثل أيام الحيض. وقاله عِكْرِمة، وسعيد بن جبير، وابن زيد.
وقال مجاهد أيضا: {وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ} إراقة المرأة حتى يخس الولد {وَمَا تَزْدَادُ} إن لم تهرق المرأة تم الولد وعظم.
وقال مكحول: الجنين في بطن أمه لا يطلب، ولا يحزن ولا يغتم، وإنما يأتيه رزقه في بطن أمه من دم حيضتها فمن ثم لا تحيض الحامل. فإذا وقع إلى الأرض استهل، واستهلاله استنكار لمكانه، فإذا قطعت سرته حول الله رزقه إلى ثديي أمه حتى لا يطلب ولا يحزن ولا يغتم، ثم يصير طفلا يتناول الشيء بكفه فيأكله، فإذا هو بلغ قال: هو الموت أو القتل، أنَّى لي بالرزق؟ فيقول مكحول: يا ويلك! غَذاك وأنت في بطن أمك، وأنت طفل صغير، حتى إذا اشتددت وعقلت قلت: هو الموت أو القتل، أنى لي بالرزق؟ ثم قرأ مكحول: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ}
وقال قتادة: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} أي: بأجل، حفظ أرزاق خلقه وآجالهم، وجعل لذلك أجلا معلومًا.
وفي الحديث الصحيح: أن إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم بعثت إليه: أن ابنا لها في الموت، وأنها تحب أن يحضره. فبعث إليها يقول: «إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمروها فلتصبر ولتحتسب». الحديث بتمامه.
وقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي: يعلم كل شيء مما يشاهده العباد ومما يغيب عنهم، ولا يخفى عليه منه شيء. {الكبير} الذي هو أكبر من كل شيء، {المتعال} أي: على كل شيء، قد أحاط بكل شيء علما، وقهر كل شيء، فخضعت له الرقاب ودان له العباد، طوعا وكرها.